قصيدة وشاعر
(أبو العتــــاهية)
قَطَّعـــتُ مِنكَ حَبائِلَ الآمالِ وَحَطَــطتُ عَن ظَهرِ المَطِيِّ رِحالي
وَيَئِستُ أَن أَبقى لِشَيءٍ نِلتُ مِمـ ـما فيكِ يا دُنيا وَأَن يَبقى لي
وَوَجَدتُ بَردَ اليَأسِ بَينَ جَوانِحي وَأَرَحتُ مِن حَلّي وَمِن تَرحالي
الآنَ يا دُنيا عَرَفتــــُكِ فَاِذهَبي يا دارَ كُلِّ تَشــــَتُّتٍ وَزَوالِ
وَالآنَ صارَ لي الزَمانُ مُؤَدَّباً فَغَدا عَلَيَّ وَراحَ بِالأَمثالِ
وَالآنَ أَبصَرتُ السَبيلَ إِلى الهُدى وَتَفَرَّغَت هِمَمي عَنِ الأَشغالِ
وَلَقَد أَقامَ لِيَ المَشيبُ نُعاتَهُ يُفضي إِلَيَّ بِمَفرَقٍ وَقَذالِ
وَلَقَد رَأَيتُ المَوتَ يَبرُقُ سَيفُهُ بِيَدِ المَنِيَّةِ حَيثُ كُنتُ حِيالي
وَلَقَد رَأَيتُ عَلى الفَناءِ أَدِلَّةً فيما تَنَكَّرَ مِن تَصَرُّفِ حالي
........................
وَإِذا تَناسَبَتِ الرِجالُ فَما أَرى نَسَباً يُقاسُ بِصالِحِ الأَعمالِ
وَإِذا بَحَثتُ عَنِ التَقِيِّ وَجَدتُهُ رَجُلاً يُصَدِّقُ قَولَهُ بِفِعالِ
عَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَلالِ
يَبلى الجَديدُ وَأَنتَ في تَجديدِهِ وَجَميعُ ما جَدَّدتَ مِنهُ فَبالِ
............................
لِلَّهِ يَومٌ تَقشَعِرُّ جُلودُهُم وَتَشيبُ مِنهُ ذَوائِبُ الأَطفالِ
يَومُ النَوازِلِ وَالزَلازِلِ وَالحَوا مِلِ فيهِ إِذ يَقذِفنَ بِالأَحمالِ
يَومُ التَغابُنِ وَالتَبايُنِ وَالتَوا زُنِ وَالأُمورِ عَظيمَةِ الأَهوالِ
يَومٌ يُنادى فيهِ كُلُّ مُضَلِّلٍ بُمُقَطَّعاتِ النارِ وَالأَغلالِ
لِلمُتَّقينَ هُناكَ نُزلُ كَرامَةٍ عَلَتِ الوُجوهَ بِنَضرَةٍ وَجَمالِ
نَزَلوا بِأَكرَمِ سَيِّدٍ فَأَظَلَّهُم في دارِ مُلكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ
........................................
أبوالعتاهية هو إسماعيل بن القاسم ، ولد في عين تمر سنة 130هـ ثم انتقل إلىالكوفة، كان بائعا للجرار ، مال إلى العلم والأدب ونظم الشعر حتى نبغ فيه،ثم انتقل إلى بغداد واتصل بالخلفاء فمدح المهدي والهادي والرشيد.
وأبوالعتاهية كنية غلبت عليه لما عرف به في شبابه من مجون ولكنه كف عن حياةاللهو والمجون ، ومال إلى التنسك والزهد وانصرف إلى عن ملذات الحياة وشغلبخواطر الموت، ودعا الناس إلى التزود من دار الفناء إلى دار البقاء، اختلففي سنة وفاته فقيل سنة 213 هـ .
ومن أخبار أبي العتاهية التي أوردها صاحب الأغاني ..
كانلأبي العتاهية جار يلتقط النوى ضعيف سيء الحال متجمل عليه ثياب فكان يمربأبي العتاهية طرفي النهار؛ فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عما هوبسبيله، شيخ ضعيفسيء الحال عليه ثياب متجمل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه. فبقي على هذا إلى أنماتالشيخ نحواً من عشرين سنة. و والله إن تصدق عليه بدرهم ولا دانق قط، ومازاد على الدعاء شيئاً. فقلت له يوماً: يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاءلهذا الشيخ وتزعمأنه فقير مقل، فلم لا تتصدق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد الصدقة، والصدقة آخركسب العيد، وإن في الدعاء لخيراً كثيرا.
- سئل عن أحكم شعره فأجاب :
( أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال: قال سليمان بن أبيشيخ قلت لأبي العتاهية : أي شعر قلته أحكم؟ ، قال قولي :
علمت يا مجاشع بن مسعدة أن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة )
ي- بَرَمه بالناس وذمهم في شعره :
(أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن روح بن الفرج قال: شاور رجل أباالعتاهية فيما ينقشه على خاتمه؛ فقال: انقش عليه: لعنة الله على لناس: وأنشد :
برمت بالناس وأخلاقهم فصرت استأنس بالوحدة
ما أكثر الناس لعمري وما أقلهم في حاصل العدة)
- قدرته على ارتجال الشعر:
(أخبرنييحيى بن علي إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني محمد بن يحيى قالحدثني عبد الله بن الحسن قال: جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان فجلسإلي. فقلت: ياأبا إسحاق، أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاجإليه سائر من يقول الشعر، أو إلى ألفاظ مستكرهة؟ قال لا. فقلت له: إني لأحسب ذلكمن كثرة ركوبك القوافي السهلة. قال: فاعرض علي ما شئت من القوافي الصعبة. فقلت: قل
أبياتاً على مثل البلاغ. فقال نم ساعته:
أي عيش يكون أبلغ من عيـ ــش كفاف قوت بقدر البلاغ
صاحب البغي ليس يسلم منه وعلى نفسه بغي كل باغي
رب ذي نعمة تعرض منها حائل بينه وبين المساغ
أبلغ الدهر في مواعظه بل زاد فيهن لي على الإبلاغ
غبنتني الأيام عقلي ومالي وشبابي وصحتي وفراغي)
فاضالعصر العباسي بمظاهر الترف والبذخ وآثار النعيم ، وأتاح الغنى للناس أنيُفتَنوا في حياتهم فبنيت القصور وكثرت الجواري ومجالس الغناء والطربوغمرت الحياة ألوان من المجون واللهو وانغمس بعض الشعراء في هذه الحياةاللاهية العابثة.
لذافقد هال بعض الشعراء ما وصلت إليه من تهتك وفجور، فتابوا إلى الله ورجعواعما هم فيه من غي وضلال وزهدوا في أسباب النعيم وأخذوا يدعون الناس بشعرهمإلى الانصراف عن الملذات والعودة إلى حمى الدين والزهد في الدنيا ومتاعهاالزائل.
وقدعرف الشعر العربي بعض أشكال الزهد قبل العصر العباسي ، فقد وجدت بوادرهعند بعض الشعراء الجاهليين كزهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة ، وعندما جاءالإسلام تأثر الشعر بما دعا إليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة منعدم المبالغ في حب الدنيا وتذكر الموت واليوم الآخر ، إلى أن شعر الزهد هووليد العصر العباسي لما عرفه هذا العصر من حركة زهد قوية جاءت ردا علىظاهرة المجون والزندقة التي انتشرت ، ومن أبرز شعرائها وروادها في العصرالعباسي أبو العتاهية.
-إن الأفكار في القصيدة واضحة سهلة خالية من العمق والتعقيد المعنوي وهيأقرب ما تكون إلى الوعظ والإرشاد، يعبر فيها عن زهده في الدنيا وتخليه عنالتعلق بالآمال الخادعة وأن القيمة الحقيقية للإنسان في الحياة مرتبطةالصالح.
أما العاطفة فهي عاطفة يأس من الحياة وزهد في الدنيا والخوف من الموت والإيمان بالنهاية المحتومة.
ابتدأأبو العتاهية بالفعل الماضي ( قطّعتُ) ، ليوحي بأنه قد قطع حبائل الآمالمن الدنيا ، وجاءت الصيغة مضعفة على وزن فعّلتُ الذي أعطى المبالغة أثناءالقيام بفعل التقطيع.
إنفكرة المقطع الأول تدور حول التجرد الكامل من الدنيا بعد أن ألقت آثارهاعلى الشاعر (الزمان مؤدبا ً، المشيب) ، لذا كان استخدام الفعل الماضي فيه(قطّعتُ، حططت، يئست، رأيت، أبصرت، صار) تأكيدا لهذه الآثار ، وجاء تكرار(الآن) ليخدم الفكرة ذاتها أيضا فيضعَ أبا العتاهية أمام واقعه الحالي،فهاهو قد عرف حقيقة الدنيا لذا سكن قلقه فأحسً بـ (برد اليأس) وتفرغت هممهعن الأشغال، وقد أكد فكرة اقتراب الموت في تكراره للقسم في (لقد).
إن إحساسه بكل هذا جاء متأخرا لأن الشيب ينعى موته، ذلك الموت الذي يراه جلادا قاسي القلب يمسك السيف وينتظره.
فقدكره الشاعر الدنيا فهي دار فناء وتعب لذا حين نداها (يا دنيا) مستخدما(يا) أداة النداء للبعيد لأنه أراد مباعدتها حتى لا تفقده تلك الراحة (برداليأس)، فقد شغلته الدنيا عن (السبيل إلى الهدى) وأعمت بصيرته عنه لذاأمرها بالذهاب (اذهبي) فقد أبصر هذا السبيل الذي أنار دربه، وما عاد هناكمجال لتراجعه فالشيب علا رأسه والموت دنا منه لذا آثر التنسك والتزهد.
إنشعر الزهد عند أبي العتاهية كان موجها للعامة آخذا السبيل الوعظي، لما سداالعصر آنذاك من مجون وفساد، لذا لم يبالغ في استخدام الصور البيانيةوالمحسنات البديعية ولم يغرب في الألفاظ، بل جاءت ألفاظه سهلة قريبة منلغة الناس، وقد استخدم الكناية في قوله (برد اليأس) ليشعرنا أن في اليأسمن الحياة راحة وسلاما، وهذه فكرة أبي العتاهية في الزهد فهو يراه تجرداكاملا من الدنيا ويأسا منها والاكتفاء بالتزهد والتزود بالأعمال الصالحةفقط للحياة الآخرة، وبهذا يناقض حقيقة الزهد التي تقرن العبادة بالعملوطلب الرزق في الحياة دون أن ينتظر الشخص رزقه أو حتى موته.
وقدصوّر أبو العتاهية الشيب إنسانا يقيم النعاة وينذر بقرب الموت وكذلك فعلفي تصوير الموت حين جعله جلادا ممسكا للسيف منتظرا قدومه وهاتان الصورتانتصوران نظرة أبي العتاهية إلى الموت فهي نظرة خوف وترقب وقلق.
إنهذا المقطع غلبت عليه الخبرية لأن في وصفا لتغير الحال وترقب الموت، معوجود أساليب إنشائية كالنداء (يا دنيا)، والأمر (اذهبي) ، والقسم( لقد) .
ثمينتقل للحديث عن مفهوم النسب، فليس نسب الإنسان في رأيه إلا صلاح عمله ومايعرف عنه من تقى، فالتقي –في نظره- إنسان يفعل ما يقول مبتعدا عن النفاقوالتملق وهذا التقى يكسب صاحبه السكينة والراحة.
وقدآثر أبو العتاهية في هذا المقطع استخدام الشرط ليثير حركة في النص فيرتفعالإيقاع مع فعل الشرط ثم يعود للانخفاض مع الجواب ، وأسلوب الشرط يوحيبالإقناع لاقترانه بالجواب وهذا ما يحاول أبو العتاهية أن يصل إليه.
ثم يخلص إلى أن كل شيء إلى زوال ليذكرنا بقوله تعالى " كُـلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ" .
أماالمقطع الثالث فهو مقطع يستحضر فيه أبو العتاهية مشهد يوم القيامة فيكثرمن صيغ الفعل المضارع (تقشعرّ، تشيب، يقذفن) ،و يكثر من وصف ذلك اليوم فهويوم تقشعر له الجلود ويشيب الطفل من هوله وتضع كل ذات حملٍ حملها، وبين كلهذا الوصف للمشهد العظيم يذكر أبو العتاهية مكان المتقين الذين ذكرهم، فهمفي مكان عليّ ٍ ، نضري الوجوه تحت ظلال رحمة الله تعالى .
إنهذا المقطع يكاد أن يكون ساكنا لما يسيطر عليه من وصف، ولكن استخدامالأفعال المضارعة كسر هذا السكون إضافة إلى الترصيع الذي جاء عفوا فيالأبيات (نوازل، زلازل، حوامل) ، (تغابن، تباين، توازن) وقد أكسب هذاالترصيع الأبيات إيقاعا جميلا وجرسا موسيقيا.
إذالاحظنا استخدام أبي العتاهية للضمائر ، فقد استخدم ضمير المتكلم في المقطعالأول الذي يفيد الانفعالية فما في وصل إليه أبو العتاهية من حقيقة جعلهمشغولا بالتعبير عن رؤيته وعرضها ، وهذه الانفعالية أكسب النص حركةوتسارعا إضافة إلى ما حققته الأفعال من حركة أيضا.
وفي المقطع الثاني كان يسود ضمير المخاطب الذي يفيد الإقناع (بحثتَ) ليرسم الصورة أمام السامع.
وفي المقطع الثالث وصف لليوم العظيم وفيه إخبار عنه وقد ساعد ضمير الغائب ليحقق الوظيفة الإخبارية.
بقيأن نقول إن شعر أبي العتاهية شعر رقيق قريب من الأذهان لأن وظيفتهوعظية،ولكن حقيقة أبي العتاهية لا تمت كثيرا إلى زهد بالصلة فهو إنسانبخيل طماع عـُرف ذلك عنه ، لذا حين نقرن شعره بشخصه قد يضعف إحساسنابأبياته، لذا نؤثر أن نقرأ الأبيات مكتفين بها.
إنصدق العاطفة عند أبي العتاهية ضعيف جدا إن قارناه بصدق عاطفة أبي نواس،فبيت واحد من أبيات أبي نواس يعادل قصائد كثيرة لأبي العتاهية .