كيف كان أهل البيت يتعاملون مع من يسيء إليهم؟ هل بالرفض والقطيعة والمحاربة أم كيف؟ كيف كانوا يتعاملون مع من يظلمهم؟ وكيف وجهوا أصحابهم وأتباعهم في ذلك؟ هل برد الإساءة بالإساءة أو بالإحسان بالرغم من الإساءة لهم؟.
وما هو خلق القرآن الذي تخلق به أهل بيت العصمة عليهم السلام والذي هو قدوة المسلمين قاطبة؟ نعم قد يسيء المرء لمرء ما، وقد يظلم أحدهم الآخر ولكن ما الذي ينبغي علينا فعله تخلقاً بأخلاق القرآن وبرسول الله (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وبأهل بيته المعصومين؟
كثر الكلام في هذه الأيام عن الإساءة والظلم على الآخرين وهيج من هيج من أصحاب التوجهات الدينية المتطرفة والمعتدلة، ولاح من لاح برأيه على منبره أو ببيان يصدع فيه برأيه وخلقه، وعزّ عليه أن يجد غيره بصورة تخالف فكره وهواه، وليس بغريب هذا إذا كان الهمم هماً فئوياً واصطفافاً مرجعياً أو حزبياً أو فكرياً؛ بعيداً عن فكر أهل البيت الصافي والنقي الذي سخر للإسلام بما هو إسلام متجرداً عن الطائفية والفئوية التي هددت الإسلام ومبادئه وأخلاقه، وفكر أهل البيت هو الفكر الذي ينبغي علينا جميعاً أن نستقي منه كل المعاني العملية الأخلاقية والتربوية الرسالية التي تعبر عن نهج الإسلام الحقيقي والصافي.
ومن هنا ننطلق لنذكر الأعزاء بفكر أهل البيت وخلقهم مع المسيئين لهم والمخالفين لمعتقدهم لنتأسى بهم وليكون ذلك هو أساس التعامل في حياتنا اليومية الخاصة والعامة لنكون مصداقاً لمن امتثل فكر وأخلاق أهل البيت عملياً لا نظرياً.
القطيعة أم التواصل في فكر أهل البيت؟
هل أمرنا أهل البيت بالقطعية مع الناس أم بالتواصل؟
في وصية لأمير المؤمنين عليه السلام يقول فيها: (... وعليكم يا بني بالتواصل والتباذل والتبار وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق) .
بل ويوصي عليه السلام بأن لا تكون القطعية أقوى من الصلة كما قال عليه السلام (... ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته...).
ويقول أيضاً عليه السلام في وصف المتقين: (... يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه ...).
هكذا سمو الخلق النبوي والعلوي، في التعامل مع الناس؛ التواصل وليس القطعية، بل التواصل هو ما يذيب جليد الشحناء والبغضاء، وسوء الظن والجهل بالآخر، فلنكن أتباعاً لأهل البيت عملاً وقولاً لا قولاً فقط.
وللأسف إن من يرفض التواصل مع الآخر هو عاجز عن التواصل مع أبناء جلدته فكيف بالآخر! وأنَّى له أن يتخلق بأخلاق أهل البيت.
الإساءة أم الإحسان منطق القرآن
هل أن منطلق القرآن ومنطق أهل البيت الذي هم عدل القرآن وترجمانه الإساءة للمسيء أم الإحسان إليه برغم الإساءة؟ قال تعالى وبمنطوق واضح: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) ﴿المؤمنون: ٩٦﴾.
يقول المازندراني في شرح الآية:
قال تبارك وتعالى (ادفع بالتي هي أحسن) قال عز وجل (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن) قال بعض المفسرين صبر الله تعالى بهذه الآية رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء إلى الدين بل في مطلق أمور التمدن، و «لا» زائدة لتأكيد نفي الاستواء والمعنى لا مساواة بين الحسنة والسيئة أبدا -يعني يكسان نيست نيكى وبدى هرگز -كالايمان والكفر والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف والعفو والأخذ ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أنه كيف يصنع بالخبيث المؤذي قال (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها وهي العفو واسم التفضيل مجرد عن معناه أو أصل الفعل معتبر في المفضل عليه على سبيل الفرض أو المعنى ادفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن من العفو والمكافاة وتلك الحسنة وهي الإحسان في مقابل الإساءة ومعنى التفضيل حينئذ بحاله لأن كل واحد من العفو والمكافاة أيضا حسنة إلا أن الاحسان أحسن منهما وهذا قريب مما ذكره صاحب الكشاف من أن «لا» غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضك حسنتان فادفع بها السيئة، مثاله رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته. (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) أي إذا فعلت ذلك صار عدوك مثل الولي الشفيق، ثم مدح هذه الخصلة الكريمة وصاحب هذه السيرة الشريفة بقول: (وما يلقاها إلا الذين صبروا) أي لا يعمل بهذه السجية العظيمة وهي العفو عن الإساءة أو مقابلتها بالإحسان إلا كل صبار على تجرع المكاره.
لكن الخلق اليوم خلاف هذا الخلق القرآني وخلق رسول الله فالإساءة اليوم تقابلها إساءة ولا عفو عن المسيء بل الإساءة أولى من الإحسان إليه وهذا خلق الشيطان لا خلق القرآن.
وفي أقوال أهل البيت وشرح المازندراني لها يقول: (وأحسنوا إلى أنفسكم ما استطعتم) المراد بالإحسان إليها الإتيان بما ينفعها يوم القيامة وتهذيب الظاهر والباطن عن الأخلاق والأعمال الفاسدة وتزيينها بالأخلاق والأعمال الفاضلة. (فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) رغب في الإحسان وترك الإساءة بأن النفع والضرر راجعان إليكم لا إلى غيركم والعلم به محرك عظيم إلى الإحسان لأن كل أحد يطلب النفع له ويدفع الضر عنه (وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم) جاملوا بالجيم أو الحاء المهملة كما مر وفيه إشارة إلى حسن المعاشرة معهم ظاهرا ولابد منه فإن النفوس العاصية المطيعة لإبليس وجنوده إن وقع الافتراق منهم بالمرة أو وقع المخالطة معهم على وجه الشقاق وإظهار العداوة وثبوا لما فيهم من الغواية والضلالة والغلظة وخشونة الوجه وقلة الحياء إلى الأذى والضرب والشتم والقتل والنهب والمعاشر على هذا الوجه فرد من الطاعة مضافا إلى الرب ظاهرا وباطنا وبه يتم نظام الدين والدنيا جميعا.
وفي كلام أمير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين أجمل العبارات وأصدق الكلمات:
(ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته ونفعك. وليس جزاء من سرك أن تسوءه).
وليس هذا مجرد كلام من أهل البيت فإنهم قولاً وعملاً يطبقون فهم:
1-يصلون من قطعهم.
2-ويحسنون إلى المسيئين إليهم. كما جاء عن الإمام الرضا عليه السلام:
(فَإِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ: نَصِلُ مَنْ قَطَعَنَا، وَنُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا، فَنَرَى وَاللَّهِ فِي ذَلِكَ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ) .
فلا بد أن يتصدى في مجتمعنا اليوم من هو أهل لهذا الخلق لأنه ليس كل واحد قادر على هذا الخلق والتخلق لأن كل إناء بالذي فيه ينضح.
العفو عن الظالم والمسيء والمؤذي
نعم العفو عن الظالم من صفات أهل بيت العصمة وقد كان يتمثل في أقوالهم وأفعالهم فهل نقتدي بهم قولاً وعملاً أم قولاً وتظاهراً فقط؟.
في أقوالهم الكثير من الروايات التي لا تتحملها هذه المقالة وفي التاريخ المنقول عنهم الكثير كذلك، وكما جاء عن أمير المؤمنين في عبارته السابقة في وصفه للمتقين (يعفو عمن ظلمه).
وجاء عنه أيضاً: (يعجبني من الرجل أن يعفو عمن ظلمه ويصل من قطعه ويعطي من حرمه ويقابل الإساءة بالإحسان) .
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "خير أهل الدنيا وأهل الآخرة أخلاقا، من يعفو عمن ظلمه، ومن يعطي من حرمه، ومن يصل من قطعه من ذوي أرحامه وأهل ولايته".
وفي هذه الرواية عمم رسول الله العفو عمن ظلمه وخصص في ضمن العام وصل ذوي الأرحام والأقارب فمن لا يستطيع أن يصل أقاربه كيف يصل الآخرين، ومن هو عاجز عن التقرب من أهله وذويه كيف يتقرب من غيرهم؟!
الله يأمر نبيه بالعفو
لقد أمر الله سبحانه نبيه بالعفو، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 199/ الأعراف.
أي تعاطى العفو مع الناس فإن ذلك سوف يوحد كلمتهم ويرص صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم، والناس مأمورون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وآله.
وقد جاء الحث على ذلك في آيات كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: من الآية17).
وقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى:43).
وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: من الآية13).
وقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: من الآية134).
تطبيقات لعفو رسول عن المسيئين والمؤذين له
1-العفو عن اليهودية:
في الصحيح عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أُتِيَ بِالْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتِ الشَّاةَ لِلنَّبِيِّ (ص) فَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ فَقَالَتْ : قُلْتُ إِنْ كَانَ نَبِيّاً لَمْ يَضُرَّهُ وَإِنْ كَانَ مَلِكاً أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْهُ. قَالَ فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ (ص) عَنْهَا.
2-العفو عن حاطب بن أبي بلتعة:
في الكتاب الذي كتبه حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بعزيمة رسول الله (ص) على فتحها.
3-عفوه عن المُثلة بعمه حمزة عندما أستشهد في أحد.
4-عفوه عن أهل مكة الذين آذوه وطردوه من بلده وحاربوه في مهجره ولما تمكن منهم عاملهم أحسن معاملة وعفا عنهم.
قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وأي أجر أعظم وأكبر من الثواب من عند الله وأي ضامن أعظم من الله سبحانه.
قال الإمام علي عليه السلام: ( شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل).
أخي القارئ هل تتذكر ذلك اليهودي الذي كان يؤذي رسول الله بوضع الأشواك والقاذورات في طريقه يومياً حتى افتقده رسول الله ووجده مريضاً فزاره، فما هي ردت فعله؟.
وهل تتصور أن يأتيك أحدهم ويظلمك ويسيء إليك وأنت في دارك ولا يجد منك إلا العفو والصفح عنه فماذا تتوقع منه؟
الحَكَمُ أهل البيت
هل نحن نقتدي بأهل البيت في العفو عن الظالمين والمسيئين والمؤذين، هل نقابل الإساءة بالإحسان مثلهم؟ هل نتواصل مع من يختلف معنا من ذوينا, وأرحامنا والأبعدين عنا كما كانوا يفعلون ويحثون؟.
أم نحن على النقيض من ذلك كله؟!
على كل امرئ سؤال نفسه، والتحقق من مصداق ذلك في الخارج فهو الأولى في التعامل معه والاصطفاف حوله؛ لأنه يمثل روح وأخلاق محمد وأهل بيته لا ذاك الذي يشجع على القطيعة مع الآخرين ويأمر بالإساءة للمسيئين وينحو نحو المتطرفين.